البُعدُ ليس مجرد مسافةٍ تُقاسُ بالكيلومترات، بل هو شوقٌ يَثقُلُ على القلب، وذكرى لا تُمحى، وحضورٌ غائبٌ يظلُّ يُرافقُك في كلِّ خطوة. حينَ نُحبُّ، نصيرُ كالكائناتِ التي تتنفَّسُ بقلبين؛ قلبٍ ينبضُ في صدرنا، وآخَرَ نَحملهُ بينَ حنايا روحنا. فماذا يحدثُ عندما يبتعدُ أحدُهما؟ تصيرُ الحياةُ كسيمفونيةٍ ناقصةٍ الإيقاع، تُذكِّرنا بفراغٍ لا يملؤه سوى صوتُ مَن نحب.
الإنسانُ كائنٌ اجتماعيٌ بطبعه، يبحثُ عن الاتصالِ العاطفيِّ كحاجةٍ وجوديةٍ تُضفي معنى على حياته. قد تكونُ الحاجةُ إلى شخصٍ ما أشبهَ بالهواءِ الذي نتنفسه؛ لا نرى له لونًا، لكننا نختنقُ بغيابه. هذا الاشتياقُ ليس ضعفًا، بل شهادةٌ على عمقِ المشاعرِ التي تربطُ بينَ روحين. كما قال جبران خليل جبران: "الحبُّ لا يرى إلا بقلبه، والبُعدُ للعاشقين كالريحِ للنارِ، يُطفئُ الصغيرةَ ويُشعلُ الكبيرة".
لكنَّ البُعدَ، رغم صعوبته، قد يكونُ مدرسةً نتعلمُ فيها دروسًا لم نكنْ لنعرفها لولاه. فهو يُعلِّمنا الصبرَ، ويُجبرنا على مواجهةِ ذواتنا، ويكشفُ لنا عن قوةٍ كامنةٍ في داخلنا. قد نكتشفُ أن الحبَّ الحقيقيَّ لا يخشى المسافة، بل يَصنعُ منها جسرًا تُحملُ فوقه الأحلامُ والهمسات. التواصلُ في عصرِ التكنولوجيا يُصبحُ سلاحًا لمقاومةِ الفراق؛ كلمةٌ في رسالة، صورةٌ تصلُ فجأةً، أو مكالمةٌ في منتصفِ الليل تُعيدُ الدفءَ إلى الروح.
لكنَّ التحديَّ الأكبرَ ليس في البُعدِ الجسدي، بل في ألّا يتحولَ هذا البُعدُ إلى سدٍّ عاطفيٍّ يُباعدُ بين القلوب. هنا يأتي دورُ الإرادةِ والوعي؛ أن نختارَ يوميًا أن نبقى حاضرينَ في حياةِ مَن نحب، حتى لو اختلفتِ الزمانُ والمكان. وأن نستخدمَ فترةَ الفراقِ لزراعةِ الثقةِ بأنفسنا، ولتطويرِ حياتنا حتى نلتقيَ وقد صرنا نسخًا أفضلَ نستحقُّ أن نُكملَ الرحلةَ معًا.
في النهاية، الاشتياقُ ليس عدوًا، بل دليلٌ على أننا قادرونَ على الحبِّ بعمق. والبُعدُ قد يكونُ اختبارًا لإخلاصِ المشاعر، فكما قالوا: "الحبُّ كالنجوم؛ يَسطَعُ أكثرَ في العتمة". فليكنْ بُعدُكَ عن مَن تحبُّ فرصةً لتتأكدَ أنَّ القلوبَ التي تَنبضُ معًا لا تفصلُ بينها المسافاتُ، وأنَّ اللقاءَ القادمَ سيكونُ أجملَ لأنكِ انتظرتِهِ بإيمانٍ، واحتَضنتَ الشوقَ كرفيقٍ مؤقتٍ في رحلةِ العمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق